جوني منيّر
لم
يكن الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون جالسين لوحدهما حول الطاولة
في القمة التي جمعتهما في باريس. فطَيف دونالد ترامب كان يُلاحق طوال الوقت نقاشات
بايدن، وهاجس اليمين المتطرف كان يقضّ مضجع ماكرون.
وإذا
كانت نتائج الإنتخابات الأوروبية ستشكل فاصلاً بين مرحلة وأخرى، فإن الحملات الإنتخابية
الحامية بلغت مستويات متوترة خصوصا مع تهديدات ترامب بالانتقام عندما سيدخل المكتب
البيضاوي من جديد. فهو قال بعد ساعات من صدور حكم الإدانة بحقه إنه أصبح لديه الحق
في «ملاحقتهم». وفي المقابل لم يتردد بايدن في وصف ترامب بالمجرم المُدان.
وقد
يكون بايدن سعى لاستنساخ تجربة أحد أسلافه رونالد ريغان خلال مشاركته في احتفالات النورماندي
في العام 1984. يومها، كان ريغان يسعى لتجديد ولايته بعد سنوات عصيبة شهدت هزيمة أميركية
في بيروت كَلّلها انفجار ضخم في 23 أوكتوبر 1983 وأدى الى سقوط 241 جنديا من المارينز
في ضربة واحدة، في واحدة من أكبر الخسائر التي يتلقاها الجيش الأميركي في تاريخه.
لكنّ
ريغان نجح في استثمار مشاركته في احتفالات النورماندي لصالح تعزيز أوراقه الإنتخابية،
وهو ما سمح له بالبقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية.
ومشاركة
بايدن في احتفالات النورماندي تعتبر واحدة من أطول الزيارات الرسمية التي قام بها رئيس
أميركي الى فرنسا. وفي الواقع إنّ هذه الإحتفالية بحاجة ماسة لها من قبل الرئيسين بايدن
وماكرون ولأسباب داخلية.
وخلال
وجوده في باريس وقبَيل انعقاد القمة الأميركية الفرنسية رسمياً، تلقّى بايدن الصفعة
من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مع إعلانه نجاح الجيش الاسرائيلي في عملية
تحرير أربعة أسرى. ذلك أن بايدن، الذي كان يعمل على تطويق نتنياهو وإجهاض محاولاته
لكسب الوقت وعدم الذهاب الى وقفٍ لإطلاق النار من خلال اقتراحه بكتابة نتنياهو لبنود
وقف النار، أدرك فوراً أنّ نجاح إسرائيل في عملية تحرير أربعة أسرى ستعزز أوراق نتنياهو
وتجعله قادرا على المراوغة من جديد. أي باختصار الدخول مجددا في لعبة استهلاك الوقت
لحرمان بايدن من ورقة ثمينة ستساعده في معركته الإنتخابية، وهذا بالضبط ما يريده ترامب.
ولا
شك أن إدارة بايدن ستعاود ضغوطها وهي لن تستسلم بسهولة، لكن الوقت بدأ ينفد من أمامها.
والبيان
الختامي الذي صدر في ختام القمة حمل عنوان خارطة الطريق، وهو ما يعني أنه يتجاوز إعلان
الموقف ليصل الى حدود العمل على تطبيق النقاط الواردة. وإذا كان من الطبيعي أن تحتل
الحرب الأوكرانية البند الأول والحرب الدائرة في غزة البند الثاني، إلا أنه كان لافتاً
أن يكون لبنان مُدرجاً في مقطع مستقل ضمن البند الثاني. ولا شك أن هذا الإدراج جاء
بطلب لا بل بإلحاح فرنسي، والذي أكد ضمناً الترابط الحاصل بين بركان غزة ونار لبنان.
ففي
المؤتمر الصحفي الذي كان قد سبق أعمال القمة تطرق الرئيس الفرنسي أكثر من مرة الى الملف
اللبناني، في وقت كان بايدن يركز على الملفات الأخرى. وقبل وصول الرئيس الأميركي الى
باريس أوفَدَ ماكرون جان إيف لودريان الى الفاتيكان حيث التقى أمين سر الدولة المونسنيور
بييترو بارولين، وكان الملف اللبناني أحد البنود الأساسية للإجتماع. واكتفت مصادر معنية
بالإشارة الى أن لودريان نقل أجواء تفاؤلية.
وهذه
الأجواء الباريسية الضبابية كانت قد واكَبتها أجواء ضاغطة في عواصم الشرق الأوسط. فعدا
الضغط الأميركي على نتنياهو على مستويات مختلفة دولياً وداخلياً، كانت عواصم عربية
تقوم بضغط كبير على قيادة حركة حماس لدفعها الى تدوير الزوايا. وكان واضحاً أن قطر
وبالتنسيق مع إدارة بايدن، تتولّى بالشراكة مع مصر مهمة إنجاح «مبادرة بايدن». ولم
يقتصر تحرك قطر على الساحة الفلسطينية وحدها بل شمل الساحة اللبنانية ووفق عنوانين:
الجنوب والرئاسة.
من
هنا جاءت زيارة الموفد الأمني القطري أبو فهد، والتي انحصرت فقط بالثنائي الشيعي. والمهمة
هنا كانت جنوبية بحتة لا رئاسية كما دأب على أن تكون جولاته السابقة.
أما
الدعوات الى الدوحة، والتي شملت وستشمل مختلف القوى السياسية اللبنانية، فهي تركز على
إيجاد السبيل الممكن والمعقول لإنهاء الفراغ الرئاسي. وخلال اللقاءات التي حصلت طرح
المسؤولون القطريون إمكانية حصول حوار أو تشاور لبناني - لبناني، إن كان في لبنان أو
حتى خارجه، وهو ما فُهِم تلميحا ضمنيا لمبادرة تقضي بجمع اللبنانيين في قطر كما حصل
عام 2008.
وفي
بيروت كانت اللجنة الخماسية تقوم بضغوط مماثلة بهدف إنهاء الشغور الرئاسي. وبعد جولة
لودريان الأخيرة، عكسَ سفراء الخماسية أجواءً تفيد بحصول تقدم لناحية إعلان «حزب الله»
أنه يفصل بين الملف الرئاسي والوضع في الجنوب. لكن وبشيء من التدقيق يظهر بوضوح ما
يشبه «التشاطر» الحاصل ما بين الخماسية و»حزب الله». فالعواصم الخمس تدرك جيداً أنّ
الربط قائم وبقوة في واقع الأمر، وأن إطلاق ورقة الرئاسة بحاجة لثمن ما، و»حزب الله»
يعلم أيضاً أن الخماسية تدرك حقيقة المعادلة القائمة. أما المواقف الإعلامية فمنطلقاتها
مختلفة.
ويدرك
جيدا سفراء الخماسية أن الهوة كبيرة بين الأطراف اللبنانية وأن الثقة معدومة بينها.
ويروي أحد السفراء ما لاحَظه بأنه عند بداية كل اجتماع بكل طرف من الأطراف كان يجري
نقل ما اقترحه الطرف الآخر، ويأتي فوراً الجواب نفسه عند الجميع: «وهل تصدّق فعلاً
ما قيل لك؟».
ويعتقد
سفراء الخماسية أن هنالك مَن أقصى نفسه بنفسه عندما أخرج نفسه عن المعايير الثلاث التي
جرى وضعها، وهي: أن يكون الرئيس المقبل من خارج الإصطفافات، وأن يكون يحظى على موافقة
وقبول معظم الأطراف وأن يكون قادرا على جمعها، وأخيراً أن يكون بعيدا عن شبهة الفساد.
لكن
الحركة الأخيرة للخماسية تزامنت مع مؤشرين أمنيين. الأول: إرتفاع سخونة المواجهات في
الجنوب وتطور مستوى رد :حزب الله» إن لناحية إدخال أسلحة جديدة في المعركة أو لناحية
بلوغ مدى قتالي جديد في العمق الإسرائيلي.
أحد
سفراء الخماسية قرأ هذا المؤشر على أساس أن «حزب الله» إمّا أنه في إطار إبراز قوته
بهدف ردع إسرائيل عن أي نية لتوسيع الحرب وفي الوقت نفسه لدرس كفية عمل المنظومة الدفاعية
العسكرية الاسرائيلية، أو أنها بهدف تعزيز أوراق حضورها الميداني في حال نجحت الضغوط
للذهاب الى وقف لإطلاق النار تمهيداً لتعزيزها في المعادلة السياسية التي سترسو.
أما
المؤشر الأمني الثاني فتمثّل بإطلاق النار على مدخل السفارة الأميركية من «ذئب» داعشي
منفرد. ومن المبكر حسم كامل خلفيات حادثة إطلاق النار «الغريبة». فمنفذ العملية ما
زال في وضع صحي دقيق نتيجة خضوعه لعمليتين جراحيتين، وبالتالي لم يجر استجوابه بالشكل
المطلوب. أما شقيقه والمنتمين لخليته فقد أفادوا أنهم على تواصل مع شخص موجود في العراق.
وبالتالي، لم يحسم بعد ما إذا كان المنفّذ السوري قد قام بعمليته من تلقاء نفسه أو
بطلب من الشخص الذي يتواصل معه. كما أن تفكيك كامل التواصل الحاصل عبر الانترنت بحاجة
لوقت لا بأس به. لكن الثابت الوحيد حتى الآن أن المنفّذ كان لوحده.
لكن
المراجع الأمنية اللبنانية تُبدي قلقها جرّاء عودة تحرك الخلايا الإرهابية في لبنان
نتيجة ظروف الحرب الدائرة في غزة. وتروي هذه المصادر أنّ الخلية الداعشية التي جرى
اعتقال أفرادها الستة منذ مدة قصيرة، والتي استهدفت ضابطاً في قوى الأمن الداخلي، إنما
كان بخلفية استهداف ضباط وعسكريين لبنانيين ولم تكن في إطار الثأر أو قضية خاصة. وكشفت
التحقيقات أن هذه الخلية كانت تعمل على تأمين تمويل عمليات إرهابية كانت ستنفذها من
خلال اعمال سرقة كانت قد باشرت بتنفيذها.
وفي
المحصلة فإنّ الساحة اللبنانية ستبقى عرضة للإهتزاز طالما أن الصراع سيبقى مشتعلاً
في غزة، وارتفاع منسوب الخطورة ناجم عن التوظيف الحاصل للحرب المشتعلة في خضم الحملات
الإنتخابية الأميركية، والتي أخطر ما فيها أن هنالك شهوراً طويلة قبل اتضاح الرؤيا
حيالها. إلا إذا عادت إدارة بايدن ونجحت في فرض اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، مع
الإشارة الى أنه كلما تقدم الوقت كلما تراجعت قدرة بايدن على فرض رؤيته، فنحن في الشرق
الأوسط.
المصدر:
الجمهورية.
الآراء
الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".