طوني عيسى
تُشكّل الضربة الجوية الإسرائيلية في دمشق، قبل أيام، تصعيداً
غير مسبوق في طبيعة النزاع. فهي لم تستهدف مواقع أو شحنات أسلحة «عادية» للإيرانيين
و«حزب الله» في الضواحي الجنوبية للعاصمة السورية، كما فعلت مراراً، بل استهدفت عمق
دمشق، وتحديداً حيّ كفرسوسة الذي حصل فيه اغتيال القيادي في «الحزب» عماد مغنية عام
2008.
طبعاً، المعلومات عن الهدف والنتائج تبقى طي الكتمان لدى
الطرفين لضرورات أمنية. لكن القراءة السياسية تشي أنّ المواجهة الإسرائيلية - الإيرانية
ستزداد سخونة في المرحلة المقبلة، ويمكن أن تشهد تحوُّلات مفصلية، لأنّ مصالح الطرفين
تقتضي التصعيد، ولأنّ القوى الدولية المعنية بالنزاع دخلت على الخط مباشرة.
في تقدير أحد الديبلوماسيين، أنّ إيران نجحت في تنفيذ خطة
ذكية تقضي باستدراج روسيا مباشرة إلى المواجهة مع الولايات المتحدة والغرب، وهذا ما
دفع إدارة الرئيس جو بايدن إلى الخروج من وضعية التردّد ومنح إسرائيل غطاءها السياسي
لكي تنفّذ ضربات عسكرية وأمنية ضدّ إيران.
فقد أقدم الإيرانيون على مدّ اليد لموسكو في معارك أوكرانيا،
في لحظة الحاجة القصوى إليهم، وبعد فترة من النأي بالنفس هناك. فقدَّموا للجيش الروسي
مُسيَّراتهم التي أظهرت كفايةً واضحة في الحرب. وهذا ما استفزَّ الأميركيين، باعتباره
تورطاً إيرانياً مقصوداً في الحرب.
طبعاً، جاء
تورُّط إيران بمثابة ردّ على تعثّر المفاوضات حول الملف النووي، ولكنه، في الغالب،
كان ردّاً على ما يعتبره الإيرانيون تورطاً أميركياً في افتعال الاضطرابات في الداخل،
بهدف إضعاف النظام وتقويضه، وإخضاع طهران في مسألتين: الملف النووي والنفوذ الإقليمي
الإيراني.
المستفيد الأول
من ارتفاع حدَّة التوتر الإيراني - الأميركي هو إسرائيل، إذ لطالما سعى رئيس وزرائها
بنيامين نتنياهو إلى إقناع إدارة بايدن بمشاركته عملاً عسكرياً مباشراً ضدّ إيران.
وفي الأيام الأخيرة، طوَّرت الولايات المتحدة موقفها في اتجاه تصعيدي ضدّ طهران. وللمرة
الأولى، أعلنت بوضوح أنّها تمنح إسرائيل الضوء الأخضر، بل تشجعها، على القيام بأي عملٍ
عسكري تراه مناسباً ضدّ طهران.
وقال السفير
الأميركي لدى إسرائيل توم نايدس، في مؤتمر المنظمات اليهودية - الأميركية الذي انعقد
في القدس: «في إمكان إسرائيل، بل يجب عليها، أن تفعل ما يجب تجاه إيران. ونحن سندعمها».
وكرَّر قول بايدن: «لن نجلس ونراقب إيران وهي تحصل على سلاح نووي. بل إننا نضع كل الخيارات
على الطاولة».
إذاً، بهذا
التصعيد، أصبحت المواجهة الأميركية - الإسرائيلية مع تحالف إيران- روسيا (والصين) موازيةً
للمواجهة الجارية في أوكرانيا بين محورين: الأميركيون وحلفاؤهم الغربيون في مواجهة
روسيا وحلفائها الشرقيين. وبات احتمال إشعال النار هنا ضرورةً تكتيكية للضغط هناك،
والعكس صحيح.
ولذلك، رفع
الإيرانيون مستوى التحدّي في الفترة الأخيرة، وأطلق الأمين العام لـ«حزب الله» السيد
حسن نصرالله أعلى مستوى من التهديدات في الاتجاهين:
للأميركيين
قال: «إذا دفعتم لبنان إلى الفوضى، فلن نجلس ونتفرج. سنمدّ يدنا إلى من يؤلمكم، ولو
أدّى ذلك إلى الحرب مع إسرائيل».
وللإسرائيليين
قال: «أي تسويف في استخراج النفط والغاز من المياه اللبنانية سيُقابل بمنع إسرائيل
من الاستخراج من «كاريش».
إذاً، هو التهديد
بالحرب. ولكن، عملياً، الحرب دائرة اليوم بين إسرائيل وإيران، بأساليب سياسية واستخبارية
وإعلامية. وهي تذكِّر بـ«الحرب الباردة» التي دارت بين الاتحاد السوفياتي والولايات
المتحدة منذ مؤتمر يالطا في العام 1945 وحتى انهيار المنظومة السوفياتية في العام1991.
في تلك الفترة،
خيضت الحروب بين الجبارين بأساليب غير عسكرية، لكن الحروب الساخنة اندلعت بينهما بالواسطة،
أي إنّ الجيوش والتنظيمات تنازعت على أراضٍ أخرى عبر العالم، بالوكالة عن واشنطن وموسكو.
ينفّذ الإسرائيليون
اليوم عمليات أمنية في الداخل الإيراني، غالباً ما يتجنّبون الكشف عنها. وفي المقابل،
تقول إيران إنّها تقوم بعمليات مماثلة. وأعلن المتحدث باسم الحرس الثوري، قبل أيام،
أنّ «الكيان الإسرائيلي تلقّى ردوداً موجعة على الهجمات الفاشلة» في إيران، لكنه رفض
الإفصاح عن طبيعة هذه الردود.
في هذه المناخات،
لا يستبعد بعض الخبراء أن تتحوَّل «الحرب الباردة» حرباً ساخنة، بين إيران وخصومها،
بالتوازي مع حرب أوكرانيا. وإذا حدث ذلك، فسينفتح الباب على سيناريوهات مختلفة في الشرق
الأوسط بأكمله.
فالإسرائيليون
يخشون أن تمتلك إيران القدرة على شن هجمات تستهدفهم من مناطق قريبة في سوريا، سواء
بالصواريخ البعيدة المدى التي يمكن تحميلها رؤوساً غير تقليدية، أو بالمسيَّرات التي
تحوّلت هاجساً في الحروب الجديدة، نظراً إلى صعوبة التعاطي معها.
وإذ يصرّ الإسرائيليون
على ضرب الأهداف الإيرانية في سوريا تجنباً لامتلاك «حزب الله» هذه القدرة، فإنّهم
يلتزمون حتى اليوم خطاً أحمر في لبنان. وعلى رغم طلعاتهم الاستكشافية المستمرة جواً
وبحراً، فإنّهم يتجنّبون تنفيذ أي ضربة عسكرية ضدّ «حزب الله» داخل الأراضي اللبنانية.
وثمة مَن يعتقد
أنّ الأمر هو نتيجة اتفاق بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بموجبه يأخذ الأميركيون على
عاتقهم أمر التعاطي مع لبنان. ولكن، هل يصمد هذا الالتزام إذا انفجر الوضع العسكري
على مداه في الشرق الأوسط؟
فالذراع الإقليمية
الأساسية الحليفة لإيران هي «حزب الله» اللبناني، ولبنان هو الجبهة الأنسب لتوجيه الضربات
إلى إسرائيل، إذا رفض السوريون الدخول في مغامرة عسكرية. وهذا الأمر واضح حالياً، إذ
تلتزم دمشق الصمت الكامل إزاء الضربات الإسرائيلية المتلاحقة التي تتعرّض لها.
ولذلك، إذا
تحولت «الحرب الباردة» مع إيران ساخنة، فإنّها ستحرق لبنان، أو ما بقي منه بعد الانهيار.
المصدر: الجمهورية.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر
عن "آفاق نيوز".