إياد الدليمي
فجأة، وجد الزعيم العراقي، مقتدى الصدر، نفسَه بمواجهةٍ مع
ضده النوعي مذهبيا، وهذا خيار ربما لم يكن يريده شخصيا، ولكن على ما يبدو أجبر عليه،
فهو اليوم متهمٌ من بعض أبناء مذهبه بأنه يقود انقلابا عليهم، يحاولون أن يصوّروه انقلابا
على الشيعة، وهو الشيعي الصيمم ابن أحد المراجع الشيعية التي عرفها القرن العشرون،
ومن عائلة ما زالت تمثل إرث المذهب بكل تلاوينه وتفرّعاته، حتى أن كثيرين من أعداء
مقتدى الصدر اليوم في العراق هم من أتباع والده ومقلديه. .. وأنت تسمع أحاديث قادة
الطرف الآخر من شيعة السلطة وتصريحاتهم، وهم يهاجمون مقتدى الصدر، يخيّل إليك، للوهلة
الأولى، أن مقتدى تمرّد على المذهب، وبات يقود حربا عليه من داخله، وذلك ما تسعى إلى
تصويره ماكينة القوى المعارضة لجهود الصدر بتشكيل حكومة أغلبية سياسية، وليست حكومة
توافقية.
أفرزت الانتخابات التشريعية التي جرت في 10 أكتوبر/ تشرين
الأول الماضي مشهدا سياسيا، ربما فيه من الجديد ما يستحق أن يتوقف عنده. ويمكن القول
إنه مشهدٌ أسهمت في تشكيله ثورة تشرين العراقية التي انطلقت في عام 2019، وأوقفتها
جائحة كورونا، ناهيك طبعا عن عوامل أخرى. وقد أكد مجدّدا هذا المشهد الذي أفرزته الانتخابات
رفضا عراقيا شعبيا واسعا للقوى الموالية صراحة لإيران. ونقول صراحة لأننا نعرف أن غالبية
القوى السياسية في العراق ترتبط بعلاقات متباينة مع إيران التي كان لها قصب السبق في
النفوذ الاقليمي في هذا البلد الحيوي على جغرافيا العالم، ولكن هناك قوى ترى نفسها
بندقيةً في يد الولي الفقيه الإيراني، ولم تتردّد لحظة في أن تشارك في معاركه، سواء
في سورية واليمن.
خسرت هذه القوى غالبية مقاعدها في البرلمان الجديد خسارةً
لم تقتنع بها، لا هي ولا إيران من خلفها، فبدأت دورة من الرفض من خلال السُبل القانونية،
ثم تحوّلت إلى دورة عنفٍ لم يسلم منها حتى مطار بغداد الذي قُصف أخيرا بصواريخ كاتيوشا،
أدّت إلى الحاق أضرار باثنتين من الطائرات الجاثمة على المدرج.
صحيح أن تلك القوى لم ولن تعترف بتلك العمليات، ولكن الجميع
يعرف ويدرك أن لا أحد في العراق يملك اليوم السلاح والقدرة والنفوذ الذي يؤهله بأن
يقوم بتلك العمليات التي لا تجرؤ حتى حكومة مصطفى الكاظمي بالتصريح علنا عن هوية الجهات
التي تنفذ تلك العمليات، لأنه يدرك أن ذلك قد يؤدّي إلى انفراط عقد السلم الأهلي أو
ما تبقى منه، والذي تتحكّم في كثير من مفاصله تلك القوى الموالية لإيران.
لم يبق، إذن، سوى التشنيع على الصدر، وترديد مقولاتٍ يبدو
أنها متفق عليها بين مختلف زعامات القوى السياسية الموالية لإيران، من قبيل أن الصدر
يهدّد المكون الشيعي بإصراره على تشكيل حكومة أغلبية سياسية، وأن ذهابه إلى التحالف
مع السني، محمد الحلبوسي، والكردي مسعود البارزاني، يعني أنه انقلب على البيت الشيعي
وقواه السياسية. لم يعترض على التحالف مع القوى الخاسرة في الانتخابات، ولكنه اعترض
حصرا على مشاركة زعيم ائتلاف دولة القانون ورئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، في
هذا التحالف، وهو اعتراض يدرك المالكي جيدا أنه على شخصه على خلفية ما قام به عام
2008 من تنكيل بالتيار الصدري ومليشياته المسلحة عبر صولة الفرسان، بمعنى أن هناك عداءً
شخصيا بين الاثنين. ولم يقنع هذا الرفض لشخص المالكي قوى التيار الموالي لإيران بالتوافق
مع الصدر والذهاب إلى تشكيل حكومة جديدة، بل دفعها إلى الرفض. والصدر، على ما يبدو،
يدرك أن هذه القوى لا تذهب إلى التوافق معه من دون المالكي، والذي يعتبر عرّاب قوى
الإسلام السياسي الشيعي وقائدهم، ناهيك طبعا عن دولته العميقة التي سعى إلى تأسيسها
خلال دورتين، كان فيهما رئيسا للحكومة بصلاحات مطلقة.
يدرك الصدر جيدا أن مهمة تشكيل حكومة في العراق ليست سهلة.
صحيحٌ أن كتلته حققت المركز الأول في الانتخابات بـ73 مقعدا، وصحيحٌ أيضا أن هناك تفاهمات
مع السنُة والأكراد للمضي بتشكيل الحكومة، ولكن الصحيح أيضا أن الحكومات في عراق ما
بعد 2003 لا تتشكّل بناء على نتائج الانتخابات. والصحيح أيضا أنه حتى لو سمحت القوى
الموالية لإيران لمقتدى الصدر بالمضي في مشروعه في تشكيل حكومة أغلبية سياسية، فإن
مهمة هذه الحكومة لن تكون سهلة، خصوصا في ظل التقاطعات الكبيرة التي يشهدها العراق.
ولكن الصحيح أيضا أن العراق إما أن يشهد تشكيل حكومة قوية قادرة ليس على توفير الخدمات
وحسب، وإنما أيضا المضي بمشروع الدولة الذي تآكل منذ 2003، أو أن ينتهي كدولة واحدة
موحدة، وبالتالي الخطير كبير والتحدّيات أكبر.
لم ينقلب الصدر على الشيعة، كما تروج ذلك ماكينات الدعاية
المضادة له، فهو الابن المخلص للمذهب، وهو الذي كان يوما مصدر إلهام لقاعدته الشعبية،
متعكّزا على تراث والده وعائلة آل الصدر، وهو الذي يمتلك أيضا مليشيات تفوق عدةً وعتادا
كل القوى الشيعية الأخرى المناهضة له. من هنا، يأتي خطره على تلك القوى التي تعتقد
أن الصدر قد يقلب لهم ظهر المجن، لكن أمام الصدر فرصة تاريخية قد لا تأتي مرة أخرى
له أو لغيره من بعده، أن ينحاز للعراق، وأن ينقلب على تراثه الشخصي قبل غيره، وأن يقارب
مصلحة وطنٍ بات على وشك التلاشي، قبل أن يفكر بما يدعونه إليه خصومه. حتى ذلك الحين،
على مقتدى الصدر اجتياز عدة حواجز وعبور معوقات كثيرة، فإما أن ينجو وينجو معه ما تبقى
من عملية سياسية صمّمت عرجاء، أو أن يسقط وتسقط معه بقاياها.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر
عن "آفاق نيوز".