عماد مرمل
قفز سعر الدولار «برشاقة» فوق رقم المئة ألف ليرة الذي كان
يُظن قبل فترة أنّ احتمال بلوغه هو ضرب من ضروب الخيال، وأنّ الوصول إليه سيشكّل صاعق
التفجير، ولكن المفاجأة أنّ الأمر على جسامته مرّ مرور الكرام، فأين يكمن سر هذا «البنج
العمومي»؟
ما كان يُفترض
أنه محظور وَقع، من دون أن يرف جفن أحد من المعنيين.
الدولار بمئة ألف ليرة وما فوق، وما بعد بعد فوق. الرقم القياسي
المسجّل رنّان وطنّان، ومُزين بمجموعة من الأصفار - الأصفاد، لكن وقعه على أرض الواقع
كان شبه عادي وطبيعي، فلا إجراءات رسمية طارئة ولا اجتماعات استثنائية لأصحاب القرار
السياسي والمصرفي ولا ثورة شعبية ولا حتى غضب رمزي ولا من يحزنون، وكأنّ الجميع كانوا
في انتظار هذا اليوم ومهيّئين لاستقباله.
لقد انحدر
البلد إلى مسافة مئة الف ليرة من عمق الهاوية السحيقة، متنقلاً من قعر إلى آخر، في
انتظار الارتطام الكبير الذي يبدو أنه لا يزال مؤجلاً.
إنه «التطبيع» الغريب مع الانهيار إلى حدود الاستسلام له
والتسليم به. وفي معرض تفسير هذه الظاهرة، هناك من يعتبر أن اللبنانيين تكيّفوا مع
الأزمة وهم المعروفون «جينياً» وتاريخياً ببراعتهم في التأقلم مع كل الأوضاع والظروف،
والبعض يفترض أن اليأس أصابهم والاحباط نال منهم فما عادوا قادرين على إبداء أي رد
فعل خصوصاً بعد إخفاق تجربة 17 تشرين التي تعرضت للمصادرة والاستثمار السياسيين. ويذهب
رأي آخر إلى الاستنتاج بأنّ جزءاً لا بأس به من الشعب اللبناني بات يتكئ على عصا التحويلات
الخارجية التي تأتي من المغتربين والملتحقين حديثاً بطوابير الهجرة، ما ساعد على الصمود
وتحمل تداعيات الهبوط الدراماتيكي في قيمة الليرة، فيما يرجّح آخرون أنّ السائد حالياً
ليس سوى هدوء ما قبل العاصفة العاتية والفوضى العارمة وأنّ تصاعد الضغط سيولّد عاجلا
ام آجلا الانفجار الكبير، لأنه لا يمكن اختصار الشعب بقلة ميسورة تطفو على السطح بينما
ما خفي تحته من معاناة الفئات الفقيرة مخيف.
لكنّ الأسوأ يبقى «سكون» السلطة ببُعديها السياسي والنقدي،
إذ أنّ عبور الدولار حاجز المئة الف ليرة لم يكن كافيا لإجراء أي مراجعة أو لتعديل
السلوك النمطي الذي يتم اجتراره منذ عقود. وحتى تكتمل المفارقة السوريالية، أصبح حاكم
مصرف لبنان المسؤول عن حماية النقد الوطني مُدعىً عليه من قبل الدولة اللبنانية، التي
عيّنته، بتهم تستوجب منعه من أن يكون صرّافاً فكيف بحاكم البنك المركزي!
لقد صار معروفاً انّ «أبجدية» ضبط سعر الدولار وترويضه، إنما
تبدأ بانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة أصيلة وتنفيذ الاصلاحات البنيوية الضرورية
واستكمال الاتفاق النهائي والاضطراري مع صندوق النقد الدولي وفق مقتضيات المصلحة اللبنانية،
وكل إجراء خارج هذه الرزمة هو، وفق أحد كبار المسؤولين، إمعان في الهروب الى الأمام
وشراء لقليل من الوقت بكلفة عالية، كما أثبتت تجارب مصرف لبنان ومناوراته المتكررة
بالذخيرة المالية الحية والآخذة في النفاد التدريجي.
ولعل الصدمة الإيجابية التي ستترتب على انتخاب الرئيس كفيلة
لوحدها بتخفيض الدولار نسبياً وبإفساح المجال لالتقاط الأنفاس، في انتظار بدء رحلة
العلاج الاقتصادي والمالي على أسس علمية مغايرة لتلك التي تم الاستناد اليها في بناء
كذبة البحبوحة منذ عام 1992 حتى عام 2019.
ومع ذلك، فإنّ ما يُفترض انها «بديهيات» سياسية واقتصادية
لا تزال موضع انقسام وخلاف، من غير أن تعطي صدمة المئة ألف أي مؤشر الى احتمال حصول
صحوة قريبة في دلالة على استمرار سياسة إنكار الواقع والتنكّر للمسؤوليات.
ولم يعد خافياً أن الضغط الاقتصادي الحاد يُستخدم أيضاً في
المواجهات بين المحاور المتنازعة، بحيث أصبح مدرجاً ضمن الأسلحة التي تُستعمل في المعارك
السياسية الرامية إلى محاولة فرض تنازلات أو تغيير توازنات، الأمر الذي فاقمَ الأزمة
وزاد طينها بلة.
وإلى حين أن تبدأ مفاعيل الاتفاق السعودي - الإيراني بالظهور
على الساحة الداخلية، كما كان النزاع يترك آثاره عليها بقوة، لا مفرّ من مواصلة الركض
على إيقاع سعر الصرف في انتظار الحل الذي لا يزال ممنوعاً من الصرف.
المصدر: الجمهورية.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر
عن "آفاق نيوز".