داود كتّاب
تحتفل القدس، وخصوصاً البلدة القديمة،
هذه الأيام، بنعمةٍ غابت عن المدينة المقدّسة منذ مدة. حضور عدد كبير من المصلين، وصل،
حسب بعض التقديرات، يوم الجمعة الثانية لشهر رمضان المبارك، إلى أكثر من مائة ألف مصلٍّ،
غالبيتهم من القدس ومن مدن وقرى مناطق الـ48 مع عدد لا بأس به من كبار السن من الضفة
الغربية.
ورغم تحويل الاحتلال البلدة القديمة
ومداخلها إلى ثكنة عسكرية، إلا أن المحتل قرّر السماح للجميع بتحقيق حقهم الطبيعي في
الصلاة والعبادة في مسجدهم. لم يكن قرار المحتلّ مصادفة، بل جاء بسبب الصمود الفلسطيني
أولاً، وبسبب معرفة المحتلّ أن أي تقييدٍ على حقّ العبادة في المسجد الأقصى سيولّد
انفجاراً، وهو أيضا ما أوضحه للمحتلّ صاحب الوصاية الهاشمية ودول صديقة وحليفة. نتج
عن هذا التدخّل القوي قرار استثنائي بإزالة وزير الأمن الداخلي العنصري إيتمار بن غفير
من أي دور في ما يتعلق بشروط المشاركة في أركان العبادة في الأقصى. ومن المؤكّد أن
الانتصارات السابقة في مواجهة المحتل، ومنها عند وضع البوابات الحديدية، لا تزال حية
في ذاكرة أي مسؤول إسرائيلي له دور في حفظ الأمن والهدوء في القدس وباقي الأراضي المحتلة.
لقد شكّل الهدوء الحذر في القدس كسراً
للحصار الاقتصادي الذي شلّ البلدة القديمة، حيث عبّر أكثر من تاجر أو صاحب حانوت أنه
كان يمرّ عليهم أيام من دون أي زبون يقوم بزيارتهم والتبضّع من محالهم. ويفرض هذا الأمر
على كل مهتمٍ بعروبة القدس أن يفكّر جلياً بكيفية استمرار تدفق المواطنين إلى القدس
القديمة، ليس فقط في شهر رمضان المبارك، ولكن في باقي أشهر السنة. حماية الاقتصاد المقدسي
هو حماية المقدّسات وقطع الطريق أمام محاولات التهويد والأسرلة. فشعور المواطن العادي
أمام التضييقات المستمرّة في أبواب القدس، وخصوصاً باب العامود، شكّل تراجعاً بحضور
أبناء القدس وبناتها إلى البلدة القديمة، ما شكّل ضرراً حقيقياً للاقتصاد، الأمر الذي
كان يهدّد عديدين من أصحاب المتاجر بالإغلاق أو البحث عن بدائل خارج أسوار القدس.
حماية القدس والدفاع عنها ليسا أمرين
سهلين، بل يتطلبان تخطيطاً وتعاوناً وتوعية، والأهم من ذلك وحدة وطنية حقيقية غير مزيفة.
وقد ترك الانقسام والخلاف الفلسطينيين آثارهما على القدس رغم (أو ربما بسبب) وجود العدد
الكبير من المرجعيات الوطنية والإسلامية، التي في غالبها لا تتجاوز سوى عنوان وورق
مروّس لإصدار البيانات، ولكن من دون أي أثر عملي على ما يجري في القدس.
لقد نشط أخيراً مثقفون مخلصون في إجراء
مناقشات صادقة وشفّافة بشأن الوضع في القدس بشكل عام، وبشأن الآلية الأفضل لتحقيق اختراقٍ
يخرج عنه جسم وطني فلسطيني يكون جل اهتمامه هو القدس وعروبتها. ومن الأفضل ألا يكون
لهذا الجسم أي علاقة بالمرجعيات المذكورة، وحتى بالجهات الوطنية والإسلامية العلنية،
ليس لسببٍ سوى أن ذلك سيكون الطريق السهل أمام المحتل لقمع أي تحرّك في هذا الاتجاه.
عندما فكّر بعض الإخوة والأخوات من
الداخل بالمشاركة في الانتخابات البلدية في القدس، جرى نقاش معمّق في إيجابيات الموضوع
وسلبياته، وكان موقف المعارضين أنه يمكن إيجاد حلول بديلة للعمل الوطني في ضمان عروبة
القدس وتطويرها، ودعم الصمود في المدينة المقدّسة لغاية تحقيق التحرّر وإقامة الدولة
المستقلة وعاصمتها القدس، إلا أن تلك الأفكار الجميلة التي نوقشت بشغف أمام المهتمين
بالانتخابات تبخّرت عند انتهاء فزعة الانتخابات، والتي خرجت أصلا بفشل كبير.
آن الأوان لسكّان القدس أن يبحثوا بجدّ
عن آلية عملية فعّالة للاتحاد على أسس النضال من أجل الصمود في القدس وتعزيز عروبتها،
ما يعني أنه لا بد من التفكير العلمي الجاد في أبسط الأمور الضرورية لذلك، من العمل
على تحسين مشكلة المشكلات، الإسكان، ثم التطور الاقتصادي والتعليم والصحّة والسياحة
والثقافة، وهي أمور حياتية. وللمقدسيين مؤسّسات مدنية تشكل بيوت خبرة لنجاح أي عمل،
على أن يكون فعّالاً وجادّاً وخارجاً عن الأطر السياسية المعروفة. فهل يمكن أن نستعين
بالمقولة العمّالية: ونقول يا سكّان القدس اتّحدوا؟
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".