عن "ديمقراطية" مزعومة في العراق
حزيران 29, 2022

مروان قبلان

عندما غزت الولايات المتحدة العراق وأطاحت نظام الرئيس صدّام حسين، كان أحد أهدافها، كما ادّعت، إنشاء نظام حكم ديمقراطي يخلف نظام حكم باطش وعنيف. وبغضّ النظر عن صدقية الزعم الأميركي، الذي برز ليغطّي على كذبة أسلحة الدمار الشامل، توافق جزء من العراقيين (الشيعة والأكراد) على دستورٍ أنشئ، بموجبه، نظام برلماني، وظهرت قوى سياسية، وتشكّلت أحزاب، إلخ، وبدأ الجميع يستعدّ لممارسة اللعبة الديمقراطية. لكن هذه اللعبة واجهتها عقباتٌ كبرى، أهمها إقصاء جزء مهم من المجتمع العراقي (السُّنة) الذين صُنِّفوا أنهم "جماعة" النظام السابق، فظهر "قانون اجتثاث البعث"، الذي أطلق عمليات تصفيةٍ واسعةٍ بحقهم. وقد ساعد السُّنة في تهميش أنفسهم في هذه المرحلة بمقاطعتهم العملية السياسية، وكل ما نتج منها، وبتصدّيهم لمقاومة الاحتلال الأميركي الذي احتمى به النظام الجديد. تمثّلت العقبة الثانية في تأسيس أحزابٍ طائفيةٍ لا يستقيم وجودها مع قواعد اللعبة الديمقراطية وقيمها. ثم صارت لهذه الأحزاب مليشيات مسلحة، أو، صار للمليشيات المسلحة أحزابٌ سياسية (فصائل الحشد الشعبي مثلاً) تحمي بقاءها في السلطة في الحالة الأولى، أو، تؤمن غطاءً سياسياً لسلاحها، في الحالة الثانية. الأسوأ أن مرجعية هذه المليشيات/ الأحزاب كانت تقع خارج الحدود، ما يضرب العملية الديمقراطية في الصميم، فجوهر الديمقراطية تمثيل إرادة الناس، والتعبير عن تطلعاتهم من خلال برامج وسياساتٍ تخدم مصالحهم. ما يحصل في العراق أن الممثّل المنتخب يعبّر عن إرادة خارجية ويخدم أجنداتٍ لا علاقة لها بمصالح الشعب العراقي. هذا يفسّر، مثلاً، لماذا يستمرّ العراق في استيراد الغاز الإيراني، رغم أن احتياطيه من الغاز أكبر من احتياط أستراليا، أو لماذا يستمر في استيراد الكهرباء، رغم أن دخله من تصدير النفط تجاوز تريليون دولار منذ عام 2003، وكان قادراً، بالتالي، على بناء محطّات توليد كهرباء تكفي لإنارة المنطقة الواقعة بين أفغانستان ومصر (هذا المبلغ قيمة الهدر والفساد الذي تحدّثت عنه تقارير الأمم المتحدة). يبقى أن الأهم من ذلك كله، افتقار "النخب" التي تصدّت للعمل السياسي في العراق إلى ثقافة ديمقراطية، جوهرها المرونة، ونبذ العنف والاعتراف بالآخر، وقبول الخسارة الانتخابية والانتقال من السلطة إلى المعارضة، والعكس. ليس أن الديمقراطية العراقية الوليدة افتقرت إلى "نخب" ديمقراطية، بل تصرّفت هذه النخب مع الدولة باعتبارها غنيمةً وقعت في حضنها في غفلةٍ من التاريخ، وصار من الصعب بالتالي تخليصها من براثن جوعى نهمين من دون تهشيمها.

أول ممارسة واضحة في هذا الاتجاه حصلت في ثاني انتخابات تشريعية شهدها العراق في ظل النظام الجديد. في تلك الانتخابات التي جرت في مارس/ آذار 2010 فازت القائمة العراقية العابرة للطوائف بأكبر عدد من مقاعد البرلمان (91 من أصل 328). مع ذلك، تمكّن ائتلاف دولة القانون، الذي يضم القوى والتيارات السياسية القريبة من إيران، من انتزاع التكليف بتشكيل حكومةٍ لم تغرُب إلا بكارثة سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة الإسلامية في يونيو/ حزيران 2014.

في انتخابات الأخيرة (أكتوبر/ تشرين الأول 2021) تكرّر المشهد نفسه تقريباً، إذ فاز التيار الصدري بأكبر عدد من مقاعد البرلمان (73 مقعداً). مع ذلك، يرفض حلفاء إيران الذين خسروا الانتخابات الإقرار بالنتيجة، ويسعون لأن يكونوا جزءاً من أي حكومة، ربحوا أو خسروا. وقد تمكّنوا من منع تأمين نصاب الثلثين اللازم لانتخاب رئيس للجمهورية يكلّف الكتلة الأكبر تشكيل حكومة. وهكذا ينجح الخاسر مرة أخرى في فرض إرادته، وقد ينجح حتى في تشكيل حكومة بعد أن أهدى الصدر خصومه مقاعد كتلته النيابية، في واحدةٍ من غرائب السياسة البرلمانية، ما يفتح الباب أمام تفجّر صراع عنيف على السلطة، لأن الكل يملك سلاحاً.

الديمقراطية نظام حكم اخترعه البشر لتداول السلطة بطريقة سلمية. المجتمعات التي تفعل ذلك تخبرنا بأنها وصلت إلى مرحلة من المدنية صار بإمكانها إدارة اختلافاتها بطريقةٍ غير عنيفة. لكن الشرط اللازم والضروري لبلوغ هذه المرحلة، كما تدلّ التجارب العالمية، قيام دولة وطنية جامعة ترفض أي مرجعية خارج حدودها، أو سلاح بغير يدها، أو تهميش أيٍّ من مكوناتها. حتى يحصل ذلك، تبقى الديمقراطية العراقية تمثيليةً صوريةً لا معنى لها.

المصدر: العربي الجديد.

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".