في الفراغ الرئاسي اللبناني
كانون الأول 03, 2022

بشار نرش

انتهت في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ولاية الرئيس الثالث عشر للجمهورية اللبنانية كما بدأت، حيث خرج الرئيس اللبناني، ميشال عون، من القصر الرئاسي وحيداً، من دون أن يُسلّمه إلى من يخلفه كما دخل إليه وحيداً من دون أن يتسلّمه من سلفه، ليدخل بذلك لبنان مجدّداً في مسار سياسي ودستوري عنوانه الفراغ، بعد ثماني جلسات فاشلة في البرلمان لانتخاب الرئيس، تحوّلت فيه هذه الجلسات إلى مسرحية أبطالها النائب ميشال معوّض والورقة البيضاء وبعض الشعارات والهتافات هنا وهناك.

في ظل هذا المشهد المثقل بانعكاسات التشقّق والشقاق، يبدو أن مسار الجلسات النيابية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية سيحافظ على وتيرته التعطيلية، في ظل المعطيات المتناقضة والمراوحة السياسية المتحكّمة بالبلاد، بفعل أمرين: الأول، غياب التوافق الداخلي الناتج عن الانقسام العمودي الذي أفرزته نتائج الانتخابات النيابية أخيرا، والذي يرجع في حقيقته إلى طبيعة النظام اللبناني القائم على فيدرالية الطوائف، التي تُروّج بالديمقراطية التوافقية أو يُبتدع لها ضوابط من قبيل القول بالميثاقية والتوافق الوطني ومقتضيات العيش المشترك، الأمر الذي يعني أنّ أيّ حلّ أو أيّ إعادة تشكيل للسلطة يستوجب رضا الجميع واستبعاد الفيتو من أيّ مكوّن طائفي لبناني. والثاني، غياب التفاهمات الخارجية التي غالباَ ما يكون لها القول الفصل في استحقاقات كبيرة ومهمة كهذه، باعتبار أن لكل طرف داخلي ارتباطات ومرجعيات خارجية.

في ما يتعلّق بالتوافق الداخلي، قد يكون السبيل الوحيد الذي يتّفق عليه الداخل والخارج حيال الجمود الحالي في الاستحقاق الرئاسي، لكن تفاصيل هذا التوافق هي التي تحمل أصل المشكلة، فالنظام السياسي اللبناني، وبسبب تركيبته الطائفية القائمة على المحاصصة، يتطلب عند انتخاب الرئيس توفر توافقين: الأول، سياسي بين الفرقاء السياسيين حفاظاً على ما تُسمّى "الميثاقية المسيحية"، باعتبار أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون مسيحيا ــ مارونيا، ويجب أن يُغطّى من فريق مسيحي وزان، وهذا مستحيل، بسبب الانقسام السياسي في البلد، والصراعات والتناقضات، ومنطق التحدّي القائم خصوصاً بين المكونات المسيحية والمارونية تحديداً، التي تستحيل معها صياغة توافق على شخصية توافقية لرئاسة الجمهورية. الثاني، نيابي، يشكّله 86 نائباً من أصل 128 نائباً، وهذا مستحيل أيضاً في الوقت الراهن، بحكم المعادلات القائمة حالياً، على اعتبار أن أعلى رقم وصلت إليه قوى 8 آذار وحلفاؤها جميعاً كان 63 ورقة بيضاء في جلسة 29 سبتمبر/ أيلول، وهذا العدد دون الأكثرية المطلقة الملزمة للفوز في الدورة الأولى. كذلك بالنسبة إلى القوى التي اختارت ميشال معوّض، فأعلى رقم وصلت إليه هو 44 صوتاً في جلسة 10 نوفمبر/ تشرين الثاني، وهذا الرقم أقل بكثير من النصف زائداً واحداً المطلوب للفوز في الدورة الثانية. لذا من المستحيل، في غياب هذا التوافق السياسي والنيابي، إنجاح جلسة انتخاب الرئيس قريباً، فالبرلمان في حال ذهابه في مسعاه إلى انتخاب الرئيس من الدورة الأولى، كما حصل في كل الجلسات السابقة، أو انتقل فوراً إلى الدورة الثانية، سيجد نفسه أمام حائط مسدود في ظل موازين القوى الحالية بين الكتل، الأمر الذي ينذر استمرارُه بمراوحة الجلسات على مشهديتها السابقة.

وبالتالي، يشكّل تحديد مفهوم التوافق اليوم محور المشكلة، ومن دونه، سيبقى الوضع السياسي يتدحرج إلى ما قد يكون أسوأ من واقع الانقسام الحالي، خصوصاً أنّ هذا الأمر لن يقتصر فقط على المواقف والتصريحات، بل على المخاطر المُحدقة بالبلد على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية.

طبعاً، يرتبط بهذا التوافق الداخلي تفاهم خارجي أو تسوية خارجية، خصوصاً بين بعض القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الساحة اللبنانية، ولا يزال هذا الأمر غائبا، بحكم الأولويات المختلفة للدول في هذه المرحلة تحديداً، فالوضع اللبناني الحالي لا يندرج ضمن الأولويات السياسية للقوى الدولية الفاعلة وهمومها، إلا أن الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية للأزمة في لبنان، قد تدفع بعض القوى الدولية الفاعلة إلى محاولة إيجاد تفاهمات أو تسويات تشكّل مخرجا للوضع الحالي، وخصوصاً في حال انعكاس هذه الأزمة على الأوضاع الأمنية وانفلاتها، وبالتالي عدم الاستقرار الذي قد يدفع موجات هجرة لبنانية كبيرة وغير شرعية باتجاه أوروبا.

في المحصلة، البحث عن مخارج داخلية للفراغ الرئاسي في لبنان أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قشّ، طالما أن النيات معدومة للالتقاء حول نقطة سواء. لذا يبقى المحرّكَ الوحيدَ لحالة الستاتيكو تدخّل إقليمي ودولي فاعل قادر على إيجاد تفاهمات أو تسويات لانتخاب رئيس توافقي غير استفزازي لأي من الطرفين، ضمن رؤية متكاملة وشاملة، لأنهإذا لم يجر التوافق على اسم رئيس بدعم خارجي وإقليمي مستدعى لبنانياً، فمن الصعب إجراء انتخابات رئاسية تعبّد طريق العبور إلى القصر الجمهوري لملء الفراغ الرئاسي، وإلا ستبقى الأمور كما هي في بلد لم يشهد منذ اتفاق الطائف عام 1989 انتخابات رئاسية ضمن المهل الدستورية، وكان يتبعها إما فراغ رئاسي فترات ليس قصيرة أو التمديد.

المصدر: العربي الجديد.

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".